2024/04/15

بعد الردّ الإيراني.. الحذر وإلا حرب كبرى

كما كان متوقعاً، قامت ايران بتنفيذ عملية انتقامية بهجوم واسع النطاق على "اسرائيل" عبر مسيّرات وصواريخ باليستية، قام الاميركيون والبريطانيون والفرنسيون والأردن بمساعدة اسرائيل على اسقاط معظمها، قبل أن تصل أهدافها.

وتعدّ هذه هي المرة الأولى التي يتواجه فيها الطرفان مباشرة خلال الصراع الطويل بينهما، والذي اتخذ شكل "الحروب بالوكالة" وحرب "المناطق الرمادية" التي تعرّف بأنها أنشطة تستهدف العدو من خلال أنشطة غامضة قابلة للانكار، لا يمكن اسنادها الى فاعل محدد، ويتمّ تنفيذها عبر هجمات مختلطة من قبل مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة.

ومن الواضح من خلال ما كشفه وزير الخارجية الايراني حسين أمير عبد اللهيان من أن ايران أرادت أن تنفذ ضربة محدودة وأن الايرانيين أبلغوا دول الجوار بالضربة قبل 72 ساعة من الهجوم. وهذا يتطابق مع ما كشفه الاتراك من أن وزير الخارجية التركية حقان فيدان كان وسيطاً بين طهران وواشنطن خلال الأيام التي سبقت العملية الإيرانية. وذكر مصدر دبلوماسي تركي أن الولايات المتحدة "نقلت إلى إيران من خلالنا أن رد الفعل هذا يجب أن يكون ضمن حدود معينة"، وأن ايران ردّت بأن "تحركها سيكون رداً على هجوم إسرائيل على سفارتها في دمشق وإنها لن تتجاوز ذلك".

عملياً، بعد قصف القنصلية الايرانية في دمشق، تنبهت ايران الى أن الوسائل السابقة للصراع مع "اسرائيل" لم تعد تتميز بنفس قوة الردع التي كانت عليه في السابق، وبالتالي إن سياسة "الصبر الاستراتيجي" الايراني باتت تغري اسرائيل لتوسيع اعتداءاتها على الايرانيين.

ولا شكّ أن عوامل عدة باتت تغري الاسرائيليين بالتوسع في عدوانهم في المنطقة، أبرزها:

1-  تداعيات السابع من أكتوبر التي باتت "اسرائيل" تظهر فيها ضعيفة مشرذمة غير قادرة على تحقيق انتصار عسكري على مجموعات مقاتلة محاصرة في قطاع غزة منذ عقود. لذا هي تحتاج الى شيء دراماتيكي لإظهار القوة والهيبة.

2-  اعتقاد اسرائيلي بأن إيران لن ترد.

الصمت الايراني السابق والردّ على الاعتداءات الاسرائيلية عبر آليات غير مباشرة، والرد بالوكالة، أغرى بالفعل إسرائيل على توسيع استهدافاتها، معتمدة على تاريخ من الصبر الاستراتيجي الإيراني الذي بات يُفهم خطأ أنه ضعف وتردد في خوض غمار الحرب.

3-  تراجع قدرة الاميركيين على تشكيل عامل ضغط على الاسرائيليين حيث تبدو الادارة الاميركية الحالية ضعيفة مترددة أمام نتنياهو.

4-   الصمت الغربي والدعم والتأييد الذي يقدمه الغرب الى اسرائيل في ظل ارتكابها الابادة في غزة، ما أغرى الاسرائيليين بأنهم يستطيعون أن يقوموا بما يشاؤون بدون محاسبة أو إدانة، وانهم مهما فعلوا سيستمر بالغرب في تأييدهم. وهذا ما كان واضحاً بالفعل من خلال عدم إدانة الدول الغربية لضرب القنصلية الايرانية في دمشق، والمواقف الاوروبية التي أدانت ردّ الفعل الايراني والتي اعتبرته "هجوماً غير مبرر".

 

عملياً، لقد دخلت منطقة الشرق الاوسط مرحلة جديدة كلياً بعد الهجوم الايراني المباشر على اسرائيل، وبات على جميع الاطراف أن تحتسب أفعالها وخطواتها بدقة متناهية، فإن أي خطوة غير محسوبة قد تؤدي بالمنطقة الى حرب اقليمية لا أحد يريدها ولا أحد يستطيع ضبطها.


 

غزة ومعركة إصلاح الديمقراطية الأميركية


كأن ما يعانيه الرئيس الأميركي جو بايدن من إحراج انتخابي وسياسي في الولايات المتحدة الأميركية ليس كافياً، ليخرج منافسه الرئيس السابق دونالد ترامب، فيتهمه بالتخلي عن "إسرائيل"، ويقول: "بايدن فقد السيطرة تماماً على الوضع في إسرائيل. لقد تخلى عن إسرائيل… أي شخص يهودي يصوت لديمقراطي أو يصوت لبايدن، يجب أن يتم فحص رأسه".

 

عملياً، فرضت حرب غزة إيقاعها على الانتخابات الأميركية في سابقة لم تعهدها الانتخابات الأميركية من قبل، إذ إنّ الاقتصاد والأمور الداخلية غالباً ما تكون هي المعيار الحاسم في المنافسة الانتخابية، ولا تشكّل السياسة الخارجية الأميركية عاملاً أساسياً في الانتخابات إلا إذا كانت تعني الناخبين الأميركيين مباشرة.

 

في العصر الحديث، شكّلت حرب العراق مادة للتجاذب الانتخابي عام 2008، بسبب رغبة الجمهور الأميركي في عودة الجنود الأميركيين إلى منازلهم، وخصوصاً بعد مقتل الآلاف منهم. وهكذا، طرح المرشح الديمقراطي باراك أوباما برنامج "الأمل" لإعادة الجنود إلى منازلهم وإنهاء الحرب. وبالفعل، قام عام 2011 بإعلان انتهاء العمليات العسكرية في العراق وسحب الجيش الأميركي بعد فشل التوصل إلى اتفاق مع العراقيين على تمديد مهمة القوات.

 

أما اليوم، فتشكّل حرب غزة عاملاً أساسياً في الانتخابات الأميركية، ليس في برامج المرشحين المتنافسين، بل داخل الحزب الديمقراطي نفسه، وتهدد بخسارة محققة لجو بايدن ضد غريمه دونالد ترامب الذي تبدو حظوظه أوفر في ظل تماسك قاعدته الشعبية، وتوافق آراء الجمهوريين بشكل عام مع طروحاته، سواء في القضايا الداخلية أو في دعم "إسرائيل".

 

لا شكّ في أن الديمقراطية الأميركية والنظام الانتخابي الأميركي فريد من نوعه من ناحية قدرة اللوبيات على دعم المرشحين والتأثير في النتائج الانتخابية، كما يتأثر بالمال، إذ تعتبر قدرة المرشحين على جمع المال جزءًا أساسياً من نجاح حملاتهم الانتخابية.

 

وبناءعليه، ما تأثير حرب غزة؟ وكيف ستؤثر في الديمقراطية الأميركية بشكل عام؟

 

تأثير المال واللوبيات

لطالما عُرف النظام الأميركي بسيطرة اللوبيات والمال، إذ يشير العديد من الباحثين والسياسيين الأميركيين إلى أن المال قوّض الديمقراطية الأميركية الحقيقية، وأن اللوبيات باتت تسيطر على القرار الخارجي الأميركي، وخصوصاً اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة (أيباك)، الذي يستطيع أن يقتصّ من معارضيه من النواب بمنع انتخابهم أو التجديد لهم، إضافة إلى قدرته على تحقيق شبه إجماع على تأييد "إسرائيل" في الكونغرس والسياسة والإعلام والجامعات وغيرها.

 

وربما تكون الإبادة التي حصلت في غزة قد أعادت تسليط الضوء وبقوة على تأثير اللوبي اليهودي، وعلت الأصوات المعترضة على تأثيره وقدرته على منع الاعتراض الشعبي من تحقيق أي اختراق على مستوى النواب الذين يخشون على مستقبلهم السياسي، وكشفت كيف يتمّ تقويض الديمقراطية عبر منع الاعتراض على سياسات "إسرائيل"، وخصوصاً بعد طرد مسؤولي الجامعات في بلد هو رمز الحريات والديمقراطية وحرية التعبير.

 

- انفصال النخب عن القواعد الشعبية

كانت انتخابات عام 2016 تاريخية في الولايات المتحدة، إذ يتم اللجوء إليها كمثال عن انفصال النخب عن القواعد الشعبية وعدم الأخذ بما تريده بعين الاعتبار. في ذلك الوقت، أصرّت النخب في الحزب الديمقراطي على ترشيح هيلاري كلينتون، التي كان معظم ناخبي الحزب الديمقراطي لا يؤيدونها ويحمّلونها مسؤولية مقتل السفير الأميركي في ليبيا، وبعضهم يعتبرها "داعية حرب".

 

وبالرغم من الاعتراضات الشعبية داخل الحزب، وقيام مجموعات كبيرة بالدعوة إلى ترشيح بيرني ساندرز مكانها، أصرت النخب في الحزب الديمقراطي على ترشيحها متحدية الأصوات الشعبية الاعتراضية، ما دفع الكثير من ناخبي الحزب إلى الامتناع عن التصويت، وفاز دونالد ترامب.

 

واليوم، تحاول نخب الحزب الديمقراطي تكرار الخطيئة السابقة بالإصرار على ترشيح جو بايدن الذي أظهرت الانتخابات التمهيدية أن نسب "غير الملتزمين" بالتصويت له كبيرة جداً، وأن حظوظه بالفوز ضئيلة.

 

وهكذا، ومع تزايد حجم الاعتراض داخل الحزب الديمقراطي على ترشيح بايدن، لما يعتبرونه مساهمته ودعمه للإبادة في غزة، تحاول الإدارة الأميركية، ومعها النخب في الحزب الديمقراطي، ابتزاز الناخبين الديمقراطيين، عبر دعوتهم إلى التصويت لجو بايدن، والتهويل عليهم بأن امتناعهم سوف يكرر نتائج عام 2016، ويجعل دونالد ترامب يفوز بالانتخابات.

 

ولعل اللافت في هذه الحركة الشعبية الاعتراضية داخل الحزب الديمقراطي أن العديد من هؤلاء يعتبرون أن فوز دونالد ترامب هو أحد أهون الشرور، وأنه ضروري لإعادة الديمقراطية إلى داخل حزبهم، إذ تكون درساً للنخب الحاكمة للعودة للاستماع إلى صوت الناخبين، وهو الأساس في الديمقراطية، حيث يكون الشعب مصدر السلطة، ويتم الأخذ برأيه في نوابه وممثليه في السلطات.

 

في المحصلة، لقد حرّكت حرب غزة المياه الراكدة في الغرب، وجعلت تأييد "إسرائيل" مكلفاً بدل أن يكون ورقة رابحة صافية يلجأ إليها المسؤولون في الغرب لكسب النفوذ والحصول على الدعم المادي وتأييد اللوبيات التي تسيطر على الإعلام والشركات الكبرى الممولة للحملات الانتخابية..

 

وما الإحراج والكلام المزدوج الذي يقوم به الرئيس الأميركي جو بايدن وإدارته حول دعم "إسرائيل" والادعاءات الكلامية بالغضب من نتنياهو وضرورة حماية المدنيين سوى دليل على أن حرب غزة استطاعت فرض نفسها وبقوة في مواجهة سطوة المال واللوبيات.

 

2024/04/06

اسرائيل تتهرب من المسؤولية: الآلة أبادت الفلسطينيين


كشفت عدة تقارير إعلامية تحقيقات استقصائية أدّت إلى كشف جديد، وهو أن "إسرائيل" استخدمت تطبيقاً للذكاء الاصطناعي، مزوَّداً بقاعدة بيانات عن مقاتلي حماس والجهاد الإسلامي، وأن ذلك التطبيق، الذي يُطلَق عليه اسم "لافندر"، أنشأ قاعدة بيانات من آلاف الأسماء، يعتقد أنهم من مقاتلين في مختلف المراتب من السلم العسكري، وحدد 37 ألف هدفاً محتملاً للقتل.

 

ويقول التقرير إن تطبيقات الذكاء الاصطناعي تلك كانت تحدد الهدف، وتتبعه، وتختار الوقت الذي يتم فيه قتل "عنصر من حماس، بغضّ النظر عن رتبته"، وهو الوقت الذي يوجد فيه في المنزل مع عائلته، أو عبر برنامج يُطلَق عليه عنوان "أين أبي"، إذ لم يكن الجيش الإسرائيلي مهتماً بقتل عناصر حماس والجهاد في المنشآت العسكرية أو في أثناء العمليات، بل كان من الأسهل استهدافهم في منازلهم، وكان هذا النظام مصمّماً لذلك.

 

ويضيف التقرير، الذي نُشر بناءً على شهادات مسؤولين إسرائيليين، أن هذه البرامج سمحت بقتل مئات المدنيين الفلسطينيين كأضرار جانبية لقتل عنصر واحد من حماس، بغض النظر عن رتبته، وأنه في كثير من الاحيان تمّ تدمير بيوت وقتل عائلات بأكملها من دون أن يكون هذا العنصر موجوداً في المنزل.

 

وكشف التقرير أن الهجوم كان يتم عبر استخدام ما يطلق عليه "القنابل الغبية"، أي قنابل غير موجَّهة، تدمر المبنى بكامله على مَن فيه.

 

والسبب يعود، بحسب مصادر إسرائيلية تمت الاستعانة بها في التقرير، إلى أنه "لن نقوم باستخدام قنابل ذكية ضد مقاتل غير مهم، لأنها غالية جداً، ولدينا نقص فيها". وأضافت المصادر: "في مرحلة لاحقة، وسعت الأنظمة عملها، وأصبحت تضيف إلى الأهداف أيضاً أفراد الإغاثة، وضباط الشرطة، وهي أهداف لا يفضَّل قصفها، على رغم أن هؤلاء يساعدون حكومة حماس، لكنهم لا يمثلون خطراً على جنودنا".

 

بالطبع، في هذه التقارير مخالفات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، وأهمها مخالفة مبدأي: التمييز بين المدنيين (والأعيان المدنية) والعسكريين، والمشاركة المباشرة في الأعمال العدائية.

 

أ‌- التمييز بين المدنيين والعسكريين

المبدأ الأساسي الذي يمثل حجر الزاوية في القانون الدولي الإنساني هو مبدأ التمييز الذي يجب على جميع أطراف النزاع التزامه في جميع الأوقات، أي "التمييز بين السكان المدنيين والمقاتلين، وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، ثم توجه عملياتها ضد الأهداف العسكرية من دون غيرها" (المادة الـ48 من البروتوكول الإضافي الأول).

 

وهذا يعني أنه يجب أن تكون هناك حدود تعريفية واضحة بين "السكان المدنيين" (الذين هم أشخاص محميون، ولا يمكن استهدافهم عمداً مطلقاً إلا إذا غيروا وضعهم إلى مقاتلين أو إذا حملوا السلاح، وذلك بحسب المادة الـ50 (1) البروتوكول الإضافي الأول من اتفاقيات جنيف، وبين "المقاتلين" (الذين يمكن استهدافهم عمداً).

 

ب‌ - المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية

ينص مبدأ التمييز في النزاعات المسلحة غير الدولية على أن كل الأشخاص من غير الأعضاء في القوات المسلحة التابعة للدول، أو من غير العناصر في جماعات مسلحة منظمة تابعة لأحد أطراف النزاع، هم أشخاص مدنيون، وبالتالي يتمتعون بالحماية من الهجمات المباشرة ما لم يقوموا بدور مباشر في العمليات العدائية، وعلى مدى الوقت الذي يقومون خلاله بهذه المشاركة.

 

وهذا يعني أنه حين يتوقف المدنيون عن المشاركة مباشرة في العمليات العدائية، أو حين يتوقف أعضاء في مجموعات مسلحة منظمة منتمية إلى طرف من غير الدول عن القيام بوظيفتهم القتالية، فإنهم عندها يستعيدون الحماية الكاملة الممنوحة للمدنيين ضد الهجمات المباشرة، الأمر الذي يعني أن قتلهم قد يُعَدّ جريمة حرب في حال لم يكن هذا القتل بدافع الضرورة العسكرية.

 

ج - ماذا يعني أن برامج الذكاء الاصطناعي أعطت الأوامر وقامت بتلك العمليات؟

 على الرغم من الضرر الأخلاقي المعنوي الذي يمكن أن تواجهه "إسرائيل"، لكن من الناحية القانونية فإن هذه الادعاءات تسمح بالإفلات من العقاب. وعليه، من مصلحة "إسرائيل" أن تدّعي أن "الآلة" هي من ارتكب الجرائم، فالمسؤولية الجنائية في المحاكم هي مسؤولية جنائية فردية، بحسب القانون الدولي الجنائي.

 

تُرتكب الجرائم الدولية "بواسطة أشخاص، وليس من جانب كيانات مجرّدة، وفقط من خلال معاقبة الأشخاص الذين يقومون بهذه الانتهاكات، يمكن فرض القانون الدولي".

 

هذا الاقتباس، من الحكم الصادر عن محاكم نورمبرغ، يُعَدّ الحجر الأساس للمسؤولية الجنائية الفردية عن الجرائم الدولية المرتكبة، كالإبادة وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، والتي عادت فيما بعد وأكدتها المحاكم الدولية المتعددة، ومنها المحكمة الجنائية الدولية.

 

وعليه، دخل الذكاء الاصطناعي بقوة للحروب، وتطورت وسائل القتال، من دون أن يلحظ القانون الجنائي الدولي تطوراً موازياً يتعلق بآليات المساءلة القانونية بشأن ارتكاب جرائم في تلك الحروب. وبالتالي، تحاول "إسرائيل" أن تستفيد من هذه الفجوة كي يفلت مسؤولوها من العقاب والمساءلة، سواءٌ في الداخل أو الخارج.

 

2024/03/31

الغرب: كيف نتخلّص من زيلينسكي ونتنياهو؟

في حديث إلى صحيفة "واشنطن بوست"، يوم الجمعة في 29 آذار/مارس 2024، هدّد الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، الكونغرس الأميركي، قائلاً إنه "إذا لم نحصل على دعم أميركي فسيتعين علينا التراجع خطوات صغيرة بالتدريج، وسيحتل الروس مدناً كبرى".

 

وفي تصريحات سابقة، مع بداية الحرب الأوكرانية، كان زيلينسكي هدّد قادة الغرب بأن أوكرانيا تخوض حرباً عن الغرب (أو سمّاه العالم المتحضر). وتوجَّه إلى الأوروبيين قائلاً إن بوتين سيأكلكم إذا خسرت أوكرانيا، مؤكداً أن خسارة كييف للحرب وانتصار روسيا سيقرّبان الصراع من الغرب، وأن بوتين لن يتوقف حتى يصل إلى جدار برلين.

 

ووفق الأسلوب التهديدي والتحريضي نفسه، أنّب نتنياهو حلفاءه في آذار/مارس 2024 بسبب مطالباتهم بوقف الحرب، عادّاً انهم فقدوا الاخلاق. ووجّه انتقادات لاذعة إلى من وصفهم بالأصدقاء في المجتمع الدولي، مؤكداً رفضه الضغوط الهادفة إلى إجراء انتخابات في "إسرائيل" وإيقاف الحرب على غزة.

 

وتماماً كما زيلينسكي قبله، كان نتنياهو مبكّراً في 7 تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2023. وفي بداية الحرب على غزة، وجّه رسالة إلى من سماهم "قادة العالم"، قائلاً "إن حرب اسرائيل هي حربكم، وإن لم ننتصر فأنتم الهدف التالي".

 

تتشابه الحرب في غزة وأوكرانيا في الدعم الغربي المطلق لحليفين في منطقتين استراتيجيتين. فهزيمة روسيا وإضعافها، ثم تفكيكها، وهي الأهداف التي جاهر الغربيون في إعلانها، تقابلها هزيمة حماس والقضاء على "فكرة المقاومة" في المنطقة، والوصول إلى إضعاف إيران، عبر الضغط عليها وعلى حلفائها في المنطقة (عبر تهديدهم بمصير مشابه لمصير حماس).

 

وفي مقارنة سريعة بين حرب أوكرانيا وحرب غزة، واللتين تُخاضان عبر دعم غربي واضح، نجد أن الإحراج الغربي بات واضحاً في الحربين، بعد تعذّر القدرة على تحقيق الأهداف.

 

وهكذا، قلّ الاهتمام الأميركي بحرب أوكرانيا مع دخول المعركة الانتخابية الرئاسية الأميركية عامها المفصلي، ورفض الجمهوريين في الكونغرس تقديم مزيد من المساعدات إلى أوكرانيا، وتصدّر الحرب الإسرائيلية على غزة الاهتمام، أميركياً وعالمياً، بينما يؤمن خبراء عسكريون بصعوبة تحقيق الجيش الأوكراني أي انتصارات مستقبلية، واستحالة استعادة الأراضي التي تسيطر عليها روسيا.

 

أمّا في حرب غزة، فكان لافتاً التباين - العلني أقله - بين الإدارة الأميركية وحكومة نتنياهو بشأن موضوع الأداء العسكري الإسرائيلي، الذي لم يكن على قدر الآمال المعقودة عليه، أميركياً وأوروبياً.

 

لقد توقع الغربيون حرباً سريعة على قطاع غزة تعطي الإسرائيلي القدرة على تصفية القضية الفلسطينية، والتخلص من المقاومة في القطاع، وتسمح للغرب بتسجيل نقاط مهمة في الصراع العالمي، وخصوصاً في الشرق الأوسط، وإيصال رسائل شديدة اللهجة إلى طهران وحلفائها في المنطقة بوجوب استسلامهم للمطالب والشروط الغربية.

 

لم يطابق حساب الحقل حساب البيدر في غزة، إذ مرت فترة السماح الممنوحة لـ"إسرائيل" لتحقيق الأهداف، والتي ترافقت مع غضّ نظر ودعم واضح في المحافل الدولية ومجلس الأمن، وتوريد السلاح والزيارات المكوكية الغربية للمنطقة.

 

وها هي أشهر ستة مرّت من دون تحقيق أي من الأهداف المعلنة، وما زالت المقاومة الفلسطينية تقاتل في شمالي قطاع غزة، والذي قالت "إسرائيل" إنها قضت على المقاومة فيه.

 

وكما أوكرانيا، التي استمر الغرب في تسليحها وتحضيرها للمعركة الكبرى منذ عام 2014، تبدو "إسرائيل" ضعيفة وعاجزة عن تحقيق المهمة المنوطة بها.

 

لقد اعتقد الغرب أن "إسرائيل" استطاعت، عبر الدعم الغربي غير المسبوق، أن ترمم قدرة الردع لديها، والتي فقدتها خلال حرب تموز/يوليو مع لبنان، واقتنع الغرب و"إسرائيل"، ومعهما قادة بعض الدول في المنطقة، أن "إسرائيل" قادرة على حمايتهم مما سموه "الخطر الإيراني"، فاندفعت الإدارات الأميركية إلى تسويق فكرة ناتو عربي (فكرة لم يقدّر لها النجاح لا في عهد ترامب ولا بايدن).

 

لكن "إسرائيل"، بعكس الصورة التي تمّ تسويقها عبر حرب نفسية ودعاية وحرب معلومات، ظهرت مرة أخرى أضعف من أن تستطيع أن ترسم خريطة شرق أوسط جديد، كما كانت إدارة بوش تريد منها أن تفعل، أو كما أراد بايدن أن يحقق عبرها انتصاراً يُحسَب له في انتخاباته المقبلة.

 

وبانتهاء فترة السماح الغربية، وبمرور الأشهر الطوال من الإبادة المستمرة للفلسطينيين، بات الغرب وقادته يريدون التنصل من مسؤولية الإبادة والقتل والتوحش.

 

وكما الحرب الأوكرانية، والتي يتجه الأميركيون إلى التخلي عنها لمصلحة تسوية تحدّ الخسائر وتُنهي الصراع بعد فشل تحقيق الأهداف، يحاول الغرب أن يُنهي الحرب الإسرائيلية في غزة، كي يَحُدّ التكلفة العالية لخسارة صورة الغرب المتفوق أخلاقياً!

 

بالإضافة إلى أنه – لأول مرة - يدخل الصراعُ الفلسطيني الإسرائيلي عاملاً (بطريقة أو بأخرى) في الانتخابات في الولايات المتحدة وأوروبا. وهكذا، باقتناع الغرب بعدم القدرة على تحقيق الأهداف، ستكون المشكلة: كيف يمكن التخلص من نتنياهو وزيلينسكي؟ 

2024/03/25

أوروبا أمام 3 مآزق كبرى

يُعتبر عام 2024 مفصلياً للغرب بشكل عام، ولأوروبا بشكل خاص، حيث تبرز تحديات عدّة ترتبط بمحطات مفصلية ستلقي بظلالها على العالم لعقود قادمة، ونوجزها بما يلي:
1ـ الانتخابات الرئاسية الأميركية:
تشكّل الانتخابات الرئاسية هذا العام التحدي الأكبر الذي يواجهه الرئيس جو بايدن، حيث تتصاعد حظوظ المرشح دونالد ترامب، في ظل ارتفاع التضخم في الداخل، وازدياد القلق الأمني المتأتي عن الهجرة غير الشرعية، وفي ظل "تضخيم" متعمد للإخبار عن قيام المهاجرين بمصادرة البيوت الأميركية، مستغلين بعض الثغرات القانونية.
وفي ظل هذه التحديات الكبرى وارتفاع أسهم دونالد ترامب، والتحديات العديدة التي يعاني منها الحزب الديمقراطي، والتي ترتبط بموقف الادارة من الحرب الدائرة في غزة، بالاضافة الى الاحراج الذي تعاني منه الادارة بسبب سنّ بايدن وقدراته الذهنية، وفي ظل الاستقطاب الداخلي حول العديد من القضايا، منها المرتبط بالخلاف الثقافي الديني، ومنها ما يتعلق بصلاحية وسلطة الادارة الفيدرالية على الولايات، والنزاع المستجد بين ولاية تكساس التي تتهم بايدن بأنه يتساهل – أو يتآمر - في استقبال المهاجرين عبر الحدود "لاستقدام ناخبين لحزبه"، بحسب ما يزعم الجمهوريون وناشطو مواقع التواصل الاجتماعي.
2ـــ بقاء نتنياهو والجناح اليميني "الإسرائيلي":
في ظل الصور التي تنتشر عالمياً من قطاع غزة، حيث تنتشر المجاعة والمجازر وقتل المدنيين، يجد الغرب نفسه أمام مأزق الحفاظ على الحد الادنى من المصداقية في ظل اتهامات (دائمة) له بازدواجية المعايير، ونظرة الجنوب العالمي الذي بات يعبّر عن استيائه من الهيمنة الغربية.
ويبدو من العناد والانتقاد العلني الذي وجهه نتنياهو لرئيس الأغلبية في مجلس الشيوخ الاميركي، ومع ازدياد الكلام الشعبوي "الإسرائيلي" الرافض "لإملاءات" الخارج، يجد الغرب نفسه أمام معضلة من حدّين: مجاراة الادارة الأميركية في الدعم غير المحدود "لإسرائيل"، وذلك إرضاء للوبي اليهودي والنافذين اليهود المتمولين والحفاظ على المسار التقليدي للسياسة الغربية الداعمة دائماً "لإسرائيل"، والحدّ الثاني ازدياد الهوة بين المجتمع المدني في الغرب والسلطات الحاكمة، والتي باتت تستغلها بعض الأحزاب المعارضة للوصول الى السلطة كما حصل في بريطانيا.
3ــ العقدة الأكبر: أوكرانيا
لا شكّ ان العملية الارهابية التي ضربت موسكو ستلقي بظلالها على الازمة الأوكرانية، والقيود التي كانت روسيا تلتزم بها في السابق في هذه الحرب. وكانت الخلافات طفت على السطح في أوروبا بعدما أعلن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون احتمال إرسال قوات عسكرية فرنسية للمشاركة في الحرب الاوكرانية، ليرد عليه العديد من المسؤولين الاوروبيين بأنهم يرفضون هذا الامر.
في ظل انقسام أوروبي واضح حول كيفية التعامل مع الحرب الاوكرانية في المرحلة المقبلة، يتخوف الاوروبيون من مجيء دونالد ترامب ما يعني ترك أوروبا وحدها في مواجهة روسيا وابتعاد الاميركيين عن دعم أوكرانيا وتركهم يواجهون أعقد وأسوأ قضية منذ الحرب العالمية الثانية لوحدهم.
ولم يتوانَ الأوروبيون – وفي مفارقة لافتة - عن الحديث عن تفضيلاتهم وقلقهم من الانتخابات الاميركية، حيث عبّر البعض عن تأييدهم لبايدن، بينما أعلن اليمين الاوروبي تفضيلهم دونالد ترامب. وكان رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشال، قد كتب مقالاً في صحيفة "ليبيراسيون" الفرنسية، قال فيه إن الأمن الأوروبي لا يمكن أن تحدده مزاجية الرؤساء الأميركيين والهزات التي باتت تصاحب المحطات الانتخابية الأميركية، وعلى الاوروبيين أن يستعدوا ويأمّنوا "اقتصاد الحرب" ويزيدوا موازنات الدفاع.
وهكذا تخرج صرخات الاوروبيين القلقة من "انتصار روسيا لانه سيكون كارثة على أوروبا" كما قال ماكرون، ونجاح دونالد ترامب سيكون كارثة على أوروبا، وحرب نتنياهو واليمين "الإسرائيلي" على الفلسطينيين، بالتزامن مع عدم تحقيق أهداف "إسرائيل" بالقضاء على حماس وتهجير الفلسطينيين من غزة سيكون كارثة على أوروبا... لكن الأكيد، أن الاتحاد الاوروبي يتناسى أنه أدخل نفسه طوعاً في أزمات كان بغنى عنها.

 

2024/03/23

ازدهار "مقاولو المعلومات" في الحرب الإسرائيلية على لبنان

 

تُعرّف حرب المعلومات بأنها استخدام تكنولوجيا الاتصالات واستخدام المعلومات للتأثير على العدو وبيئته وقدرته على اتخاذ القرار، وتشمل تلك الحرب مجموعة واسعة من النشاطات، مثل الحرب النفسية والخداع العسكري والحرب الإلكترونية ونشر معلومات كاذبة أو مضلّلة للتأثير على الرأي العام، أو لزرع الارتباك، أو للتأثير ودفع بيئة العدو إلى الانهيار الإدراكي.

تقوم حرب المعلومات على الإنترنت بشكل أساسي باستخدام الدعاية السياسية ونشر الأخبار المفبركة أو المضللة. وهذه لا تقوم بشكل عشوائي اعتباطي بل ضمن خطة استراتيجية متقنة توضع بناءً على فهم دقيق وإدارة تدفّق المعلومات، والذي يقوم على فهم مختلف الجهات الفاعلة وأهدافها، فضلاً عن دراسة واعية ومعمّقة للبيئات المستهدفة بها، ويشمل ذلك تحليل مصادر المعلومات والقنوات المستخدمة، وكذلك الجمهور المستهدف.

وعلى هذا الأساس، نلاحظ أنّ "إسرائيل" تشنّ حرب معلومات شرسة على لبنان، مستخدمة كل أدوات التأثير ووسائل التواصل واللعب على الوتر المذهبي والطائفي اللبناني، وتحريض المجموعات على بعضها وإدخال الدين عنصراً أساسياً في ذلك، إضافة إلى دغدغة عواطف واستثارة غرائز بعض الفئات اللبنانية التي خرجت من الحرب مهزومة وتسعى بشتى الوسائل إلى استعادة دور لها في النظام بعد خسارته، أو تلك التي يمكن استثارتها غرائزياً وطائفياً لشيطنة كلّ مختلف طائفياً ودينياً، لحدّ التوصّل إلى تكفيره.

الوسائل

أمّا أهم الوسائل التي تستخدمها "إسرائيل" في حرب المعلومات ضدّ لبنان، فتتجلّى بالآتي:

أ‌- العمليات النفسية: وتعني استخدام التواصل الاجتماعي والإنترنت للتأثير على مشاعر الأفراد والجماعات وإقلاقهم عبر تحديد مواعيد لهجوم عسكري إسرائيلي على لبنان، وتوزيع مقالات تهدف إلى زعزعة ثقة اللبنانيين بقوّتهم وغير ذلك من استخدام الناشطين على وسائل التواصل لمهاجمة كل شخص أو جهة تتحدث عن قوة لبنان، وتسخيف أيّ إنجاز.

ب‌- الأخبار المفبركة أو المعلومات المضلّلة للتأثير على الرأي العام أو صنع القرار. ويمكن أن يختلف هدف هذه العمليات من جمع المعلومات الاستخباراتية أو تشويه سمعة الأعداء أو إنشاء روايات كاذبة للتلاعب بالرأي العام، أو استغلال الانقسامات الثقافية أو الاجتماعية أو الطائفية وهو ما يحصل بشكل كبير في لبنان.

ومؤخّراً، بدأت تلك الحملات بالادّعاء أنّ "إسرائيل رابحة في هذه الحرب" عبر إقامة مقارنات بين أعداد الضحايا اللبنانيين وأعداد القتلى الإسرائيليين، والزعم أن المناطق المحاذية للبنان في فلسطين المحتلة لم تتأثّر بقصف حزب الله، بينما القرى الجنوبية في لبنان قد دمّرت بالكامل وتضرّرت و "سويّت بالأرض". مع التنويه أنه لو كان ما يدّعيه أولئك الناشطون صحيحاً لما تردّدت "إسرائيل" في اجتياح لبنان كما فعلت مراراً في العقود السابقة.

هذا مع العلم أيضاً أن "إسرائيل" تقوم بإخفاء العدد الحقيقي للقتلى الإسرائيليين، ومراقبة المحتوى المنشور على الإنترنت عبر ما يسمّى الرقابة العسكرية. إن الاطلاع على ما يكتبه الإعلام الإسرائيلي يوضح حجم المأزق الذي تعانيه "إسرائيل" على الحدود مع لبنان، والذي يدفعها إلى "تفضيل الخيار الدبلوماسي مع لبنان" كما صرّح عدد من المسؤولين الإسرائيليين.

من ينفّذ تلك الحرب؟

أ‌-مقاولو المعلومات:

استناداً إلى ما يكشفه العلم عن حرب المعلومات، فالأكيد أنّ الكثير من هذه الدعاية التحريضية عبر الإنترنت لا يتمّ إنشاؤها بشكل عشوائي على وسائل التواصل الاجتماعي، بل أن هناك من يسمّى "مقاولو المعلومات المضلّلة" والذين يعرضون خدماتهم على شبكة الإنترنت المظلمة للحكومات والجيوش والمجموعات الذين يتطلّعون إلى شن حملات واسعة النطاق ضد أعدائهم أو خصومهم.

داخل هذه الشبكة المظلمة، يقوم أولئك "المقاولون" الذين يطوّرون وينشرون معلومات كاذبة ومضللة بتجربة الرسائل واختبار الردود التي يتلقّونها عليها، وتوزيعها على مجموعات الناشطين للتعاون في المراسلة وتحديد الصور والتوقيت والاستهداف لتحقيق أفضل النتائج ضد العدو.  

ب‌-تستخدم هذه المجموعات والحكومات ما يسمّى " troll farms " والتي تُنشر عبرها معلومات مضللة من خلال ملفات شخصية وحسابات مزيّفة تبدو أنها مملوكة لأشخاص حقيقيّين، والهدف منها تضخيم (مزيّف) للأفكار السياسية.

يمكن الإشارة إلى مثال حيّ لبنانياً، كالفكرة التي يتمّ تسويقها مؤخراً حول تباين "مسيحيي" تحديداً مع حزب الله، واستخدام تلك الحسابات لخلق فتنة "مسيحية شيعية"، انجرّ وراءها العديد من الناشطين اللبنانيين من كلا الطرفين في ردود وردود مضادة، بما يوحي وكأنّ ما تعكسه وسائل التواصل من حقد وانقسام هو واقع الناس على الأرض، وهذا غير صحيح.

لقد أدى التطوّر السريع للتكنولوجيا وتطوّر الإنترنت، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي إلى تسهيل قيام الأفراد والجماعات بهذه العمليات بتكلفة منخفضة، حتى مشاركة أشخاص فيها بمحض إرادتهم من دون أن يتمّ الدفع المادي لهم، بل هم فقط تدفعهم عوامل نفسية أو طائفية أو سياسية، مما يجعل تحديد هذه العمليات ومواجهتها أمراً صعباً بشكل متزايد.

ج-روبوتات الذكاء الاصطناعي:

 تعتمد هذه الحرب على روبوتات الذكاء الاصطناعي المبرمجة لنشر روايات معيّنة أو كلمات أو عبارات رئيسية، فتعمل تلك الروبوتات "الفيروسية" على تضخيم انتشارها عبر إعادة نشرها، وهذا بدوره يشجّع محركات البحث وخوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي التي تستفيد من المنشورات الشعبية والتعليقات الاستفزازية لمنحها أهمية أكبر.

في النتيجة، إن أبرز ما يميّز هذه الحرب التي تخاض اليوم على وسائل التواصل، أن حسابات إسرائيلية مزوّرة وأخرى عميلة ومتعاملة معها، تشنّ هجومات عبر الإنترنت على كل ما يمكن أن يُظهر قوة لبنان ووحدته، أو يدعو إلى الاتحاد في وجه التحديات التي تواجه اللبنانيين، لكنّ الأخطر انخراط بعض الحسابات الصحيحة في تلك الحملة المبرمجة وقد يكون بقصد أو بغير قصد ومن دون أن تعرف أنها باتت أدوات في تلك الحرب الإسرائيلية على لبنان.

 

2024/03/14

بالدليل والسوابق: الخسائر الاستراتيجية الاسرائيلية بدأت

مع دخول الحرب الاسرائيلية على غزة شهرها السادس، ومع انتشار صور الدمار والمجاعة في القطاع، بدأت بعض الأصوات العربية تخرج لتقول أن حماس ارتكبت عملاً غير محسوب النتائج، وأنها أدّت الى خسارة غزة وخسارة للقضية الفلسطينية، وأن حماس أعطت الفرصة لاسرائيل لتستفيد من تلك الحرب لتقضي على قطاع غزة كلياً وتعيد احتلاله وتقضي على ما تبقى من القضية الفلسطينية.

وبالرغم من الكلفة البشرية والمادية العالية في القطاع، إلا أن تقييم الارباح والخسائر في حرب لامتماثلة لا يحتسب بهذه الطريقة التبسيطية، ولا يمكن تقييم نتائج تلك الحروب كما يتم تقييم الحروب التقليدية التي تحصل بين جيوش نظامية حيث تقاس نتائجها بأعداد الجنود القتلى ومساحة الأرض المحتلة. هذا بالاضافة الى أن تقييم الأرباح والخسائر على المدى القصير في غزة لا يمكن أن يلغي الخسارة الاستراتيجية التي تتعرض لها "اسرائيل" والتي يستمر بالتحذير منها كل من الرئيس الأميركي جو بايدن، ووزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي حذّر اسرائيل من استبدال النصر التكتيكي بهزيمة إستراتيجية.

ولعل أحد الأمثلة على الهزيمة الاستراتيجية الاسرائيلية هو تبدّل الرأي العام العالمي وصورة اسرائيل في العالم، والتي ارتبطت بأعمال القتل والتجويع والابادة في غزة، خاصة مع قرار محكمة العدل الدولية  الابتدائي الذي وجد " معقولية" لادعاء جنوب أفريقيا على اسرائيل بأنها ترتكب "إبادة جماعية" في غزة وأن الفلسطينيين يحتاجون الى حماية، وان على اسرائيل ان تلتزم بما تمليه عليه التزاماتها في "اتفاقية منع إبادة الجنس" الصادرة عام 1951، والموقّعة عليها اسرائيل.

وإذا كان بعض العرب وداعمي اسرائيل في العالم يعتقدون أن اسرائيل غير معنية ولا تكترث بصورتها الدولية، فيمكن أن نشير الى سابقة تعاملها مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379، المعتمد في 10 تشرين الثاني / نوفمبر 1975، والذي أقرّ أن "الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري" والذي اتخذته الجمعية العامة بأغلبية 72 صوتًا مقابل 35 صوتًا وامتناع 32 عن التصويت. وحيث أتت أهمية ذلك القرار بعد إقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري في 21 كانون الأول/ديسمبر 1965 والتي بدأ نفاذها في 4 كانون الثاني/يناير 1969.

لم تستطع اسرائيل "هضم" هذا القرار غير الملزم في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعملت دائماً على تقويض سمعة الأمم المتحدة والجمعية العامة التي اتخذت العديد من القرارات التي أدانت اسرائيل وانتصرت للقضية الفلسطينية، الى أن وصل العام 1991، حيث اشترطت اسرائيل أن يتم إلغاء القرار رقم 3379، قبل أن تقبل المشاركة في عملية السلام مع الفلسطينيين، والسير في مسار أوسلو.

وبناءً على الضغوط الأميركية وحاجة العالم للتقدم قدماً في مسار عملية السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين وحيث أن تبدل النظام العالمي وتغيّر الوضع الجيوسياسي في العالم فتح نافذة للأمل بتحقيق مسار للسلام في الشرق الاوسط، تم الغاء القرار المذكور بموجب بموجب القرار 46/86، الذي تم اعتماده في 16 ديسمبر 1991 بأغلبية 111 صوتًا مقابل 25 صوتًا وامتناع 13 عضوًا عن التصويت.

وكانت اسرائيل تسعى الى إصدار قرار معاكس للقرار 3379، وواضح من حيث "الاقرار ان الصهيونية ليست شكلاً من أشكال العنصرية" وحاولت شتى السبل للوصول الى صيغة واضحة في هذا المجال. وبالرغم من ذلك، عادت وقبلت – على مضض- النص القصير الذي فرضته الولايات المتحدة (والتي هيمنت على الأمم المتحدة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي) والذي يتضمن عبارة واحدة ""[الجمعية العامة] تقرر إلغاء التحديد الوارد في قرارها 3379 المؤرخ 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1975".

وبالرغم من أن القرار الجديد لم يذكر الصهيونية، وليس فيه إعلان صريح أن الصهيونية ليس شكلاً من أشكال العنصرية، فقد اعتبرته اسرائيل انتصاراً ونتيجة لحملة طويلة من العلاقات العامة والضغوط الدبلوماسية التي مارستها الدول الغربية والولايات المتحدة واسرائيل لنقض القرار السابق.

وعلى هذا الأساس، وبالرغم من أن المعركة العسكرية الجارية في غزة لم تنتهِ، وبالرغم من الكلفة البشرية العالية التي لحقت بالفلسطينيين، يمكن القول أن خسائر استراتيجية لحقت – وستلحق- باسرائيل بعد هذه الحرب.

إن خسارة السمعة والصورة التي عملت اسرائيل طويلاً على تكريسها كـ "دولة ديمقراطية، وضحية" في الشرق الأوسط، ليس تفصيلاً في مسار اسرائيل في المنطقة والعالم، والقضية المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية (بغض النظر عن نهاياتها بعد أعوام) ليس بالأمر الذي يمكن لاسرائيل أن تتخطاه، والأصوات اليهودية في العالم التي ترفض استخدام الهولوكست لتبرير الابادة في غزة ... كلها خسائر متحققة منذ الآن، تضاف الى ما سيترتب على هذه الحرب من أكلاف سياسية واقتصادية وعسكرية وانقسامات داخل اسرائيل.